ﻻ ندري على أيّ آليّة استند السفير بشار الجعفري لتقرير أن الملائم لاجتماع مجلس الأمن يوم أمس هو موضوع تعبير إنشائي ركيك اللغة والمعنى، مناسبٌ لتلك المهرجانات الخطابيّة التي حررت فلسطين والجولان ولواء اسكندرون وعربستان وجزر الإمارات وأوغادين ألف ألف مرّة. هل كان يريد مخاطبة مؤيّديه عبر مجلس الأمن؟ أم أن على مؤيديه أن يتيقنوا أن هذا هو السقف الذي يستطيع أن يصله النظام في اللغة السياسية، بغض النظر عن إعجابهم بهذا السقف أو لا؟
ﻻ علاقة للذهول من فداحة الخطاب بالموقف من مجلس الأمن أصلاً، وﻻ يجب ربطه به، بل أنه متعلّق بكيفَ يعبّر النظام عن نفسه، وهذا يخصّنا. يخصّنا ﻷنه تذكيرٌ، جديد، بكيف وصلنا إلى ما وصلناه.
لا يدري السامع أين يبدأ إن أراد تفكيك الخطاب ونقده، أمِن استهلال الخطاب بشعر نزار قباني أم من اللغة العنصريّة التي توجّه بها إلى عموم العرب وليس فقط إلى الأنظمة الحاكمة بأسلوب "أين كنتم عندما كنّا" الشوفيني الفارغ، أم من نعت الآخرين بالأوليغارشيّة (وهم أوليغارشيّون فعلاً، لكن أليس النظام السوري مثالاً دموياً أحد أسوأ أشكال الأوليغارشيّة بدوره؟ كيف يعيب في الآخرين شيئاً يفخر بوجوده في ذاته؟)، أم من السخرية من تبعيّة الآخرين "للورنس العرب" حين كان هناك في سوريا نظام برلماني عام 1919.. بربّكم هلا أخبر أحدكم معالي السفير أن هذا النظام البرلماني الملكي الفيصلي كان، أيضاً، اب الحلف مع "لورنس العرب" ضد العثمانيين؟
طالما تحدثنا عن "العثمانيين". ما ذنب اﻻحتجاجات الشعبيّة والمعارضة ضد النظام بخسارات سوريا الهائلة نتيجة العلاقة اﻻقتصاديّة مع تركيا؟ ألم يكن توقيع النظام هو المؤسس لهذه اﻻتفاقات؟ ألم يكن أردوغان "بطلاً" في صفحات بروباغندا النظام منذ أقل من سنة؟
ليس استعراض الكم الهائل من الثغرات في خطاب الجعفري هو المهم الآن، حتى لو نفعنا للاستدلال حول ضحالة موارد الخطاب السياسي للنظام السوري، وهي ضحالة ناتجة عن انعدام وجود السياسة بمعناها العلمي أصلاً. في الخطاب عناصر تدل على الطريقة التي ينظر بها هذا النظام إلى نفسه وكيف أراد أن يجبرنا على رؤيته. نقصد بالذات العمل الدؤوب على اختطاف كل شيء جميل وإيجابي في سوريا، صراحةً أو مواربةً، ونسبه إلى نظام البعث، وكأنه وحده من جعل لسوريا معنىً، وكأنه هو من غرس أولى شجيرات الياسمين في الشام.
يُكثر الناطقون باسم النظام، السوريين منهم وغير السوريين، من نصبه حارساً لالتزام سوريا بالقضايا الوطنيّة والقوميّة، وقد يعتقد السامع أن هذا الشعب ليس إﻻ شرذمة من الخونة والعملاء الذين ﻻ يزجرهم عن خيانتهم إﻻ البسطار، وﻻ يرجعهم إلى "الطريق القويم" إﻻ القمع والعنف واعتقال حقوقهم وحرياتهم، فلو تُركوا لانضمّوا، بكل سرور، إلى حشد اﻻستعمار والصهيونية والعمالة الرجعيّة العربيّة. إن من يفتخر ويزهو ببرلمان سوريا الديمقراطي عام1919 ، البرلمان الذي أنتج يوسف العظمة وزيراً، ليس إﻻ ممثّل النظام الذي يمنعنا من ممارسة حقوقنا الديمقراطيّة اليوم، بعد ثلاثة وتسعين عاماً، بحجّة عدم "جاهزيتنا" لتقرير مصير بلادنا ومسارها ومواقفها. ذو الخمسين أو الستين عاماً منّا، حسب خطاب نظامنا الراعي لمصالحنا، قاصر فكرياً ومنطقياً كطفل، كطفلٍ عادي، ﻻ كأطفالٍ متقدّمين على سنّهم وعصرهم كما كان سفيرنا، والذي كان يموّل الثورة الجزائرية من "خرجيّته".
للتاريخ، الثورة الجزائرية انتصرت عام 1962، أي قبل انقلاب حزب البعث، ووقفة الشعب السوري معها ومع كلّ القضايا الإنسانيّة والعربيّة التي استطاع مدّ يد العون لها مشهودة في كتب التاريخ التي نجت من محارقهم وفي ذكريات الكبار.. فبعضُ الذكريات نجت، كمعجزة، من "فرع فلسطين".
أما الإشارة إلى اميل زولا، صاحب رسالة "أنا اتهم" الشهيرة والمدافع عن براءة "دريفوس" في وجه كل قوى وسُلطات زمانه، فجديرة بالاستغراب، سيما وأنها جاءت من سفير نظامٍ لم يتسع صدره يوماً لأمثال زوﻻ، بل اتسعت سجونه في غروره وضاقت على صدورهم وكلماتهم.